أشكلة مفاهيم ....حداثة أم تحديث؟؟
يعد الفصل بين مفهوم الحداثة والتحديث مدخلاً منهجياً لتعريف الحداثة بصورة علمية وغالباً يرسم الباحثون في ميدان العلوم الإنسانية حدوداً فاصلة بين مفهومي الحداثة والتحديث. وعلى الرغم من هذا الترسيم العلمي يلاحظ هذا التداخل الكبير بين المفهومين. فغالباً ما يجري استخدام مفهوم تحديث للدلالة على الحداثة وعلى خلاف ذلك كثير ما يستخدم مفهوم الحداثة للاشارة الى ظاهرة التحديث.
ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة الى فكرتين أساسيتين هما: الثورة ضد التقليد، وفكرة مركزية العقل. وفي هذا الصدد يعرف جابر عصفور الحداثة: بأنها البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الانسان من الارض. أما سياسياً واجتماعياً فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة الى الحرية، ومن الاستغلال الى العدالة، ومن التبعية الى الاستقلال ومن الاستهلاك الى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة الى الدولة الحديثة ومن الدولة التسلطية الي الدولة الديمقراطية. تعني الحداثة الإبداع الذي هو نقيض الإتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل. والحداثة مفهوم متعدد المعاني والصور، يمثل رؤية جديدة للعالم مرتبطة بمنهجية عقلية مربوطة بزمانها ومكنها. فهي رفض للجمود والانغلاق والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية، وهي تعني اطلاق الحرية وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية للقيام بدورها.
يتمايز مفهوما الحداثة (Modernity) عن مفهوم التحديث (Modernization) في اللغتين الانجليزية والفرنسية, فالحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وازاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل الى معرفة ملموسة, أما التحديث فهو عملية استجلاب التقنية والمخترعات الحديثة حيث توظف هذه التقنيات في الحياة الاجتماعية دون احداث اي تغيير عقلي او ذهني للإنسان من الكون والعالم. فانصار التيارات السلفية المتطرفة يوجودن في المعاهد العلمية والجامعات ويتعاملون مع التقنية الحديثة دون ان يأخذوا بالروح العملية أو الفلسفية لهذه التقنية. ومن اجل ان نفهم جوهر الحداثة يتوجب علينا ان ندركها كطاقة متجددة متحركة منطلقة تتمثل الماضي والحاضر وتعيد إنتاجهما بروح مستقبلية جديدة.
لذلك فإن التطورات التي تسجل في مستويات الانتاج والاستهلاك في البنية التحتية تشكل صورة لعملية تحديث, وشتان ما بين الحداثة والتحديث، فالتحديث يعني (مظاهر الحداثة وقشورها) بينما تعني الحداثة في الاصل (اللحظة الواعية التي تتمثل في انتظام العقلانية والفردية والقيم الحرة في اندفاعة حضارية قادرة على إحداث تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والبنائية للمجتمع), فالحداثة هي حالة تعتمل في بوتقة الروح الاجتماعية وتتجلى في مظاهر الجسد الاجتماعي. اما التحديث فقد يكون حالة من حالات الاستيراد المنظم لشكليات الحداثة مثل استيراد السيارات والطائرات والمصانع والخبرات وانظمة التعليم وبدع الاستهلاك الاجتماعي. فالحداثة كانت ممكنة عن طريق بناء المختبرات في مجال الفيزياء والكيمياء والرياضيات, ولكي تتضح لنا الرؤية أكثر سنأخذ بمثال مستمد من واقع الخليج العربي، فبلدان الخليج تستورد مظاهر الحداثة المادية وهي آلات ومخترعات كلفت أوروبا مئات السنين من البحث والتجريب العلمي وفي اصل هذه المخترعات تكمن روح ديكارت وفرانسيس بيكون وغاليلو وكوبر نيكوس وأديسون وغيرهم، وهذه الروح العلمية روح العلم الحديث التي تمثل جوهر الحداثة.. إذن نحن ننقل مظاهر هذه الروح وليست روح العلم والمعرفة العلمية الحقة. لذلك غالباً ما يظهر ان هذه النماذج الحضارية تتعارض مع نسقنا الحضاري في اصوله وتجلياته الذاتية. لذلك نجد انفسنا نتعايش في منظومتين اجتماعيتين متنافرتين في آن واحد هما: مجتمع تقليدي يمارس حياته وفق معايير وقيم تقليدية، ومجتمع حداثي يعيش وفق أحدث المعايير العصرية ودون ان يتمثل في روح هذه المعايير ويتشرب من تدفقاتها الذاتية.
فنحن نعيش إذاً على فتات الحداثة وقشورها، وبالتالي فإن الروح الحقيقية للحداثة الحقيقية لم تستطع ان تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في مجتمعاتنا.
اننا نعيش المدينة كتوسع أسمنتي وتقنيات كمبيوتر لا نملك من قيمتها الا احتواءها. كل ذلك على أرضية العلاقات الإقطاعية (الخراجية) والجانب التجهيلي من البداوة وليس البداوة الإنسانية المؤصلة لقيم إنسانية تضع الإنسان كقيمة أولى. وان الروح الحقيقية للمجتمع المدني لم تستطع ان تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في مجتمعاتنا، فنحن نعيش على قشور المدنية وتتأصل فينا البداوة الشرسة التي تغيب معها القيم الإنسانية الأصيلة التي تضع الإنسان في صدارة غاياتها.
،،، وتمنياتنا لهم مزيدااااا من الابداع
موضوع: أشكلة مفاهيم ....حداثة أم تحديث؟؟ 
